للسّماء نصعد.. نُصافح النّجومْ
نحدّقُ في دجى الليل السّاكنِ في وحدته.. هاربينَ من غيمةٍ لغيمةْ.. منهُ إلينا.. منّا إلى الحياة،
ظامئين إلى الحريّة..
يُلقي القمر علينا بظلالِهِ الفضيّة، تنسابُ على وجنتيّ الكون ماءً
نرشفُ منهُ، حتّى نشرقَ صباحًا
,
،
تلك الكلمات التي تجذّرت في الرّوحِ والمخيّلة ونبتت، بعد أن أنهيتُ كتابًا صغيرًا في متناول يديّ،
يلامسُ العمقَ الكامنَ في الرّوح.. يدغدغُ المُخيّلة
ويبعث على الصّفاءِ الرّوحيّ الذي ينعشُ الذات فتنطلق منهُ إلى العالمِ بكل حيويّة.
}نبتُ الأرضِ وابن السّماء{، هكذا اختار د. محمد بن حامد الأحمري تعريفًا لسيرة الفيلسوف النّبيل، والقائد المجاهدِ الثّائر، الأب الحنون، والمواطن الحقيقيّ
الإنسانِ المتفرّد بإنسانيّته، وقراءتِهِ العميقة للدّين والحياةْ "علي عزّت بيجوفيتش"، وقد وُفّق في العنوان كثيرًا، فليس أبلغ من مقاربة الوصفِ القرآنيّ "ابتداءً" في فكرة تطلّع الأصل الأرضيّ للسماويّ "أصلها ثابتٌ وفرعها في السّماء"
في الكتاب الكثير مما يعبّر عن الروح "الإنسانية والإسلاميّة خصوصًا"، ذات المنهج الرشيد المتّزن
والنّظرة المقاصديّة التي لا تقفُ لدى حاجزِ الأفهام الأحادية ومحدوديّة الرؤى.
تناول المؤلّف سيرة بيجوفيتش عبر سماتٍ وأركان رئيسة كوّنته شخصيّته قائدة في صورةٍ فريدة، وهيّأت له أسباب الخلاص والتحرر من القيود الأرضيّة الاستبداديّة التي ضيّقت على العالم في ذلك الحين حيث يقطن في بلد أوروبيّة ضمن أقليّة مسلمة مضطهدة، أوّلها "الحريّة".
كان يرى بيجوفيتش أن طبيعة الدين تحث الإنسان الذي هو الأساس للنظر إلى الخارج، والتأمل في الكون
ليخرج بفهم مستقلّ لا يجعلُ منه فريسة للماضي أو عبدًا للموروث،
"إنّ الحريّة خلاص الروح من العبودية للماديّة، خلاص العقل من التعصّب الفلسفي والمذهبي والدّيني، خلاص من سلوك المستبدّين على اختلافهم،
ويراها تارة هجرةً إلى القراءة والأدب من اليأس وانتظار الزّمن.
كما أنّها لديه اختيار، حقٌّ يؤخذ لا يُطلب، وهي الاختلاف!
فلو لم تكن للفرد حرية لصناعة أفكاره الخاصّة يعني أنّها مفقودة غائبة وأن تماثل الأغبياء هو السّائد، فلا قيمة إذن للبشر!
وكذلك يرتبط مفهوم الحريّة لديه ارتباطًا عميقًا بالوجود الإلهي، حيث أنّه يرى أن الحريّة هي (رعاية الأمانة)، القدرة على إعانة النّاس.. أي أنها حرية اختيار المرء بين صون ما اؤتمن عليه أو إهداره، وتلك قيمة أخلاقية فالأخلاقُ سمةٌ لمن يملك الاختيار، والعقليّة المُلحدة لا تعترف بالأخلاق،
وبذلك يرى أنّ حقيقة الوجود الإلهي والاتصال به هي طريق الوصول إلى الحريّة، فالله والحريّة لا ينفصلان.. والوعي بالحرية يقود للقناعة بوجود الله، لذا فإن هناك علاقةُ بين إنكار الحرية وإنكار الله.
أمّا الدين لدى بيجوفيتش انقلابٌ جذري من الحالة اللا إنسانيّة، انقلابٌ في الإنسان وداخله "لا شيء أسمى وأعمق من الإيمان، ولا شيء أكثر غباءً من بعض المؤمنين"
والحب لديه نجده متمثلًا في نهر من العطاء، فالقلوب الأنانية لا يمكن أن تحبّ"،
وعن الفن؛ فهو ما يستعصي على الفهم كالحياة..
كان بيجوفيتش ينظر للفنّ كجزء والدين (الكلّ) لا يعارضه، وهو لا يتجاوز شموليّته، لأنّ الدّين طبيعة فطريّة لا يمكن لأي مجتمعٍ أن ينفكّ عنه، كما أنّ روح الإسلام لا تتعارض مع النّظرة الجوانية – التطلّع إلى السّماء -، وتلك النّظرة المشتركة هي جوهر الفنّ، حيث يراهُ إبداعًا – خاضعًا لثقافة لا منتجًا حضاريًّا – يفوق المدرك القريب المحسوس إلى الأفق البعيد، فالشعراء والفنّانون نتاج ثقافة لا نتاج علم، ويرى أن عقلنة الفنّ لا تسمو به إلى هذا الجوهر فالعقل المادّي ضيّق الأفق، أما الحيوانيّة كتعبير عن فطرة أو صفة للإنسان فهي ما لا يضيف إلى الفنّ شيئًا ولا يتمثّل سموّه وغاياته، كما أنّه كان يقف من النّقد وقفة منصفة حيث يرى أن الإفراط فيه أو منطقته تسيء للصورة الفنيّة الراقية التي هي سرّ وإيمان.. "العمل الفني مسألة جوانية ، سر ، مسألة إيمان "
لا يخضع للمنطق، وأنّ الخيال هو الوقود لتلك الطاقة الإبداعية الخلاقة التي تضفي المعنى والقيمة ( الجمال )، وكما يقول "هو المقدّس فوق العقلي" إذا استثني منه الغثاء، والفنّ متعة لمستهلكه، أما منتجه فالمتعة نتيجة وليست أحد الدوافع العديدة للفنّ، والفنّ جمال وهو أعلى تجلّيات الزّينة التي هي من مقاصد أصل الخلق، وإشباع للحاجات الرّوحيّة لكنه لا يرقى لأن يحل مرتبة الدين، فهو مرحلة للروح، بين البلادة وتعالي الروح الدينيّة، أي انفعال عارض يقصر عن مرحلة التقوى والإعجاز الديني في السمو الروحي، فما يزال محدود الغاية معتاد الظهور عاجل التأثير، فالمبالغة في التجسيم لدوره يفسد غاية الدّين.
هكذا كانت الرحلة بأحرفٍ – غير دقيقة – مع ابن السّماء؛ روحًا وعبادةُ وفنًّا - كما يقول المؤلّف -،
فارشفوا منهُ بدوركم.. حتّى تشرقوا "صباحًا".