يستخدم كل المتفائلين المثل الشهير “أنظر لنصف الكوب الممتلئ” كدلالة على وجود أمل دائما حتى في أحلك اللحظات، وأن كل شيء لا يخلو من مميزات كما لا يخلو من العيوب. وفي تصورهم الدائم، أن النصف الآخر من الكوب الممتلئ هو نصف فارغ. لكن، للعلم رأي آخر في هذا المثل الشهير.
فماذا يعني الفراغ في الفيزياء إذا؟ الفراغ Vacuum هو الحيز من المكان الخالي تماما من المادة، حيث لا يوجد حتى الهواء. وعند الفيزيائيين فحتى هذا الفراغ، على المستوى الكمي، يحتوى مادة ما. لكن كونه فراغ يجعل له صفات فيزيائية مميزة. ونصف الكوب الذي يبدو فارغا هو نصف ممتلئ بالهواء الغير المرئي، مما يجعل الكل يعتقد أنه فارغ. فماذا سيحدث لو كان هذا النصف فارغا بالفعل؟ ستجيب الفيزياء هذا السؤال كما جرت العادة في سلسلة “ماذا لو؟”
احتمال حدوث هذا الأمر على الأرض مستحيل بالطبع، لكننا هنا سنُعمل خيالنا سويا ونتصور السيناريوهات الممكنة. والمؤكد لنا أن هذا الفراغ لن يستمر ولو لحظات، لكن ما سيحدث سيختلف إذا جاوبنا على السؤال، أي نصف في الكوب هو الفارغ؟
سنتخيل المشهد الآتي. أنت الآن في مقهى مع زميل لك، وأمامك منضدة عليها ثلاثة أكواب، كل منهم نصفه ممتلئ بالماء، الكوب الأوسط الكوب المعتاد، نصفه ماء Water ونصفه هواء Air. وعلى اليمين كوب آخر يشبهه، لكننا استبدلنا الهواء بفراغ. وعلى اليسار كوب مخالف يمتلئ نصفه العلوي بالماء والسفلي بالفراغ Vacuum . وسنتابع الأكواب لكل ميكروثانية، ابتداءا من اللحظة صفر t=0.
لن يحدث شيء في أول بضع ميكرو أجزاء من الثانية، فحتى جزيئات الهواء المحيطة بالأكواب لن تكون قد تحركت. وجزئيات الهواء تتحرك بسرعة بضع مئات من الأمتار في الثانية الواحدة. ولكن بعضهم يتحرك بسرعة أكبر من الباقين. وبعد مرور مزيدا من الميكرو أجزاء من الثانية، ستبدأ جزيئات الهواء الأكثر سرعة في دخول الفراغ في الكوب الأيمن.
ويحاط الفراغ في الكوب الأيسر بثلاث جوانب من الزجاج، بينما الجانب العلوي محاط بالماء، والذي لن يتمدد ليدخل الفراغ بنفس سرعة الهواء. لكن ما سيحدث بسبب إنعدام الضغط داخل الفراغ، أن يبدأ الماء في الغليان ببطء مطلقا البخار تجاه النصف الفارغ.
بعد حوالي 150 ميكرو جزء من الثانية سيبدأ الهواء في التدفق في الفراغ في الكوب الأيسر، بينما سيكون فراغ الكوب الأيمن به القليل جدا من بخار ماء.
بعد بضع مئات من الميكرو أجزاء من الثانية، ستكون سرعة تدفق الهواء في فراغ الكوب الأيمن كبيرة جدا، وسيملأ الهواء الفراغ، ويرتطم بقوة بسطح الماء، مسببا موجة تصادمية سنتنشر في الماء والكوب قبل أن ترتد وتنتشر في الهواء مرة أخرى.
وستسبب الموجة في إهتزاز الكوبين المجاورين، قبل أن يسمعها الجالس بجوار الكوب كصوت صفعة شديدة وذلك بعد بضعة ميللي أجزاء من الثانية من حدوثها.
في نفس الوقت تقريبا، أي بعد حوالي 2 ميللي جزء من الثانية، سيبدأ الكوب الأيسر في الارتفاع في الهواء قليلا. فضغط الهواء سيحرك الكوب والماء تجاه بعضهما البعض. وبما أن الفراغ في الكوب الأيسر في النصف السلفي، سيؤدي هذا لرفع الكوب تجاه الماء، وفي نفس الوقت سيتحرك الماء تجاه الفراغ، والذي سيكون به القليل جدا من بخار الماء في تلك اللحظة.
انكماش حجم الفراغ مع حركة الكوب والماء سيؤدي لزيادة ضغط الكمية القليلة من بخار الماء بداخله، مما سيبطئ من الغليان الذي حدث سابقا وتسبب في تواجد في بخار الماء، لكن هذا لن يحدث فارقا.
سرعة حركة الكوب والماء تجاه بعضهما البعض ستكون كبيرة جدا الآن بعد حوالي 8 ميللي جزء من الثانية. وسيؤدي هذا لارتطام الماء بقوة شديدة كالمطرقة في قاع الكوب.
ومن خصائص السوائل أنها غير قابلها للانضغاط، لكنها تنقل الضغط بشكل كامل، ولذلك فكل القوة التي سيصطدم بها الماء في قاع الكوب ستنتقل للقاع الزجاجي وتحطمه. ويسمى هذا التأثير بالمطرقة المائية، ويمكن إحداثه بسهولة على أي زجاجة مليئة بالماء كخدعة في الحفلات مثلا، فعند الضرب بقوة كافية على فوهة زجاجة مليئة تتحرك الزجاجة لأسفل أسرع من السائل بداخلها مما يكون فراغ بين الإثنين، فيتسبب ضغط الهواء في تحريك السائل تجاه الفراغ بقوة شديدة كفيلة بتحطيم قاع الزجاجة.
وفي حالة الكوب الأيسر، ستكون القوة كافية جدا لتحطيم حتى أقوى أنواع الأكواب. وسيرتطم القاع المنفصل بالمنضدة ليتحطم لشظايا صغيرة تتناثر في جميع الاتجاهات وتصيب كل الجالسين حول المنضدة. بينما سيستمر باقي الكوب في الطيران لأعلى. وكل هذا سيحدث وقد مر حوالي نصف ثانية لا أكثر.
في نفس اللحظة سيسمع الجالس حول المنضدة صوت التحطم والارتطام، كما سيتابع بعينيه الكوب المتحرك لأعلى تجاه السقف، والذي سيكون لديه طاقة كافية ليصطدم بالسقف ويتحطم.
قبل أن تهبط الشظايا الزجاجية المتناثرة وتصيب الجالسين أيضا.
وسيتكون المشهد النهائي من كوب أيمن نصف ممتلئ بالماء والنصف الآخر بالهواء، وكذلك الكوب الأوسط، مع كوب أيسر متحطم، ومجموعة من المصابين بشظايا زجاجية في وجوههم. وهنا تكمن العبرة من الموضوع، فعندما يكون الفرد متفائلا سينظر للنصف الممتلئ، أما لو كان متشائم فسينظر للنصف الفارغ. وفي الحالتين سينحني الفيزيائي محاولا الهرب من الإصابة بالشظايا الزجاجية المتناثرة.