تفاصيل سقوط مدينة غرناطة الأندلسية ومحاكم التفتيش
موقعة طريف:
وقد تجلى تحالف ملك المغرب مع ملك غرناطة مرة أخرى في المعركة التي أصيب فيها الملكان بهزيمة فادحة في معركة طريف سنة 741هـ من قبل النصارى .
منذ ان استعاد الأندلسيون سنة 733هـ بمساعدة بني مرين - حكام المغرب - جبل طارق بعد أن ظل بأيدي النصارى أربعة وعشرين عاما - إذ سقط في أيدي النصارى سنة 709هـ توطدت العلاقة أكثر فأكثر بين بني الأحمر من جهة وبني مرين من جهة أخرى .
وكان الأندلسيون كلما احسو بخطر النصارى يحدق بهم سارعوا إلىالاستنجاد بإخوتهم في الدين في العدوة المغربية من بني مرين ، وكانوا يقومون بالدور الذي كان يقوم به المرابطون والموحدون من الجهاد في أرض الأندلس "وفي عهد أبي الحجاج يوسف (ولايته 733-755هـ) " .
كثرت غزوات النصارى لأراضي المسلمين وكان ألفونسو الحادي عشر تحدوه نحو المملكة الإسلامية أطماع عظيمة فكان أن استنجد أبو الحجاج بأبي الحسن سلطان المرينين ، الذي أرسل ابنه أبا مالك إلى الأندلس ، فاخترق سهول الجزيرة الخضراء معلنا الجهاد ، فاجتاح أراضي النصارى وحصل على غنائم لا تحصى غير أن النصارى من قشتالة وأرجوان والبرتغال كونوا
(1) انظر: ابن جزي ومنهجه في التفسير (1/59).
اسطولا بحريا متحدا ليستقر بالمضيق فيمنع الإمداد عن جيوش المغرب وسارت قوى النصارى المتحدة للقاء المسلمين وبارك البابا هذه الحملة، فباغتوا أبا مالك عند عودته بالوادي الذي كان يقع بين حدود النصارى وأرض المسلمين فكانت موقعة عظيمة قتل فيها أبو مالك ، وهزم جيشه هزيمة منكرة، وبلغ أبا الحسن المريني الخبر ، فاحتسب عند الله ابنه وشرع في الجهاد من جديد على إثر هذه المعركة. تجهز السلطان أبو الحسن واستنفر معه أهل المغرب فتوافت أساطيل المغاربة بمرسى سبتة تناهز المائة فأخرج الطاغية أسطوله إلى الزقاق (مضيق جبل طارق) ليمنع السلطان من الجواز إلى الأندلس فوقعت معركة بحرية عظيمة أظفر الله المسلمين فيها بعدوّهم وخالطوهم في أساطيلهم واستلحموهم هبراً بالسيوف ، وطعنا بالرماح ، وألقوا أشلاءهم في اليم ، وقتلوا قائدهم ، واستاقوا أساطيلهم إلى مرسى سبتة(1) . ثم بعد أن جلس السلطان للتهنئة وأنشدت الشعراء بين يديه ، استأنف إجازة العساكر فانتظمت الأساطيل سلسلة واحدة من العدوة إلى العدوة. ونزل السلطان بعساكره بساحة طريف وأناخ بها ووافاه سلطان الأندلس أبو الحجاج بعساكر الأندلس، وأحاطوا بطريف وأنزلوا بها أنواع القتل ونصبوا عليها الآلات.
غير أن الطاغية جهّز أسطولاً آخر اعترض به المضيق لقطع المرافق والمؤن عن المعسكر، وطال ثواء المسلمين بمكانهم من حصار البلد، ففنيت أزودتهم وافتقدوا العلوفات فوهن الظفر، واختلت أحوال المعسكر، وحشد الطاغية أمم النصرانية، وظاهره البرتغاليون وبالرغم مما قيل من أن جيش المسلمين كان زهاء ستين ألفاً، فإن طول محاصرتهم للبلد وانقطاع المؤن عنهم
(1) انظر: ابن خلدون (7/261) نقلاً عن ابن جزي ومنهجه في التفسير (1/72).
من أول المحرم سنة 741هـ وإلى أوائل شهر جمادي الأولى من نفس العام، ثم المكيدة التي دبرها لهم أعداؤهم وعدم تلافيها كان وراء انكسار شوكتهم(1) وهذه المكيدة كما يصفها ابن خلدون تتلخص فيما يأتي:
(ولما قرب معسكرهم سرّب الطاغية إلى طريف جيشاً من النصارى أكمنه بها فدخلوه ليلاً على حين غفلة من العسس المسلمين، الذين أرصدوا لهم غير أنهم أحسوا بهم آخر ليلتهم، فثاروا بهم من مراصدهم، وأدركوا أعاقبهم قبل دخول البلد، فقتلوا منهم عدداً ولبّسوا على السلطان بأنه لم يدخل البلد سواهم حذراً من سطوته وزحف الطاغية من الغد في جموعه، وعبأ السلطان مواكب المسلمين صفوفاً وتزاحفوا. كما تولى السلطان يوسف قيادة فرسان الأندلس ولمّا نشبت الحرب برز الجيش الكمين من البلد وخالفوهم إلى المعسكر، وعمدوا إلى فسطاط السلطان ودافعهم عنه الناشبة الذين أعدوا لحراسته فاستلحموهم ثم دافعهم النساء عن أنفسهن فقتلوهنّ وخلصوا إلى حظايا السلطان فقتلوهن، واستلبوهن وانتهبوا سائر الفسطاط وأضرموا المعسكر ناراً وأحسّ المسلمون بما وراءهم في معسكرهم فاختل مصافهم وارتدوا على أعقابهم بعد أن كان ابن السلطان صمم في طائفة من قومه وذويه حتى خالطهم في صفوفهم فأحاطوا به، وتقبضوا عليه وولّى السلطان متحيزاً إلى فئة من المسلمين واستشهد كثير من المسلمين من سادتهم وقادتهم(2).
وكانت محنة عظيمة لم يشهد المسلمون مثلها منذ موقعة العقاب(3) يقول المقري في وصف هذه الفاجعة:
(1) انظر: ابن جزي ومنهجه في التفسير (1/73).
(2) انظر: العبر لابن خلدون (7/261-262) نقلاً عن ابن جزي (1/74).
(3) انظر: نهاية الاندلس ص128.
"فقضى الله الذي لامرد لما قدّره أن صارت تلك الجموع مكّسرة ورجع السلطان أبو الحسن مغلولاً وأضحى حسام الهزيمة عليه وعلى من معه مسلولاً.. وقتل جمع من أهل الإسلام ولمّة وافرة من الأعلام.. واشرأبّ العدو والكافر لأخذ مابقي من الجزيرة ذات الظل الوريف، وثبت قدمه إذ ذاك في بلد طريف، وبالجملة فهذه الموقعة من الدواهي المعضلة الداء، والأرزاء، التي تضعضع لها ركن الدين بالمغرب، وقرّت بذلك عيون الأعداء"(1).
ويرأى الاستاذ نجيب زبيب اللبناني أن هزيمة المرينيين كانت بسبب الخيانة والعمل الاستخباراتي الذي قامت به ممالك النصارى ويرأى أن حكام غرناطة كانوا يتجسسون لصالح النصارى: (فالقشتاليون على سبيل المثال اتخذوا من حكام غرناطة جواسيس لهم في جميع أنحاء المغرب. وفي المناطق المنفصلة عنه مثل المغرب الأوسط وإفريقية وكان بنو زيان في تلمسان والحفصيون في المغرب الأوسط على اتصال مستمر مع حكام غرناطة، ينقلون إليهم كل المعلومات المستجدة عن الدولة المرينية، حتى أنهم صاروا يقومون بدور مخلب القط للقشتاليين فكل المعلومات التي كانت ترد إليهم من الحفصيين والزيانيين كانوا يقدمونها إلى القشتاليين.
وكثيراً ماحث القشتاليون حكام غرناطة على طلب النجدة من المرانيين للايقاع بالجيوش المرينية وأساطيلها في المكائد والشراك المنصوبة..)(2).
ولاشك أن العمل الاستخباراتي من الأعمال التي تدمر الأمم إذا لم يكن لها عمل مضاد ضد مخططات الأعداء بل إن نجاح الدول في تحقيق أهدافها منوط بتحقيق هذا المفصل المهم في بناءها.
(1) انظر: ابن الجزي ومنهجه في التفسير (1/74) نقلاً عن نفخ الطيب (6/317).
(2) الموسوعة العامة لتاريخ المغرب والاندلس ، الاستاذ نجيب زبيب (3/81).
هـ- العلماء الذين سقطوا شهداء في معركة طريف:
1- أبو محمد عبدالله بن سعيد السلماني، والد الوزير الغرناطي والأديب الكاتب لسان الدين بن الخطيب.
2- القاضي أبو عبدالله محمد بن بكر الأشعري المالقي، أحد أشياخ ابن الخطيب وصاحب كتاب التَّمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان، (كان حسن التخلق عطوفاً على الطلبة محباً للعلم والعلماء مجلاً لأهله مُطَّرح التصنع عديم المبالاة بالملبس بادي الظاهر عزيز النفس نافذ الحكم صَوَّالة معروفاً بنصرة من أزَر اليه. تقدم للمشيخة ببلده مالقة ناظراً في أمور العَقد والحل ومصالح الكافة ثم وُليَّ القضاء بها فأعَزَّ الخُطة وترك الهَوادة ملازماً للقراءة والإقراء محافظاً للأوقات حريصاً على الإفادة. ثم وُلَّيَ القضاء والخطابة بغرناطة"(1).
"وتصدَّر لبثِّ العلم بالحضارة يقري فنوناً منه جَمَّة فنفع وخَرَّج ودرَّس العربية والفقه والأصول وأقرأ القرآن وعلم الفرائض والحساب وعقد مجالس الحديث شرحاً وسماعاً على سبيل من انشراح الصدر وحسن التجمُّل وخفض الجناح.."(2).
"واستمر على عمله من الاجتهاد، والرغبة في الجهاد، إلى أن فقد - رحمه الله - في مصاف المسلمين، يوم المناجزة الكبرى بطاهر طريف، شهيداً محرّضاً يشحذ البصائر و (يدمي) الأبطال، ويشير على الأمير من أن يكثر من قول :"حسبنا الله ونعم الوكيل".
(1) الاحاطة (2/176-177).
(2) نفس المصدر (2/177).
3- أبو القاسم محمد بن جُزَيّ وهو أحد أشياخ ابن الخطيب وصاحب المؤلفات. كان "فقيهاً حافظاً قائماً على التدريس، مشاركاً في فنون من عربية وفقه وأصول وقراءآت وأدب وحديث، حافظاً للتفسير، مستوعباً للأقوال، جمّاعة للكتب، ملوكي الخزانة، حسن المجلس، ممتع المحاضرة، قريب الغور، صحيح الباطن، تقدم خطيباً بالمسجد الأعظم من بلده على حداثة سنه، فاتفق على فضله، وجرى على سنن أصالته"(1).
"فقد وهو يحرض الناس ويشحذ بصائرهم ويثبتهم، يوم الكائنة بطريف.."(2).
وغير ذلك من الفقهاء والعلماء والصلحاء الذي كان همهم نصرة دين الله والموت في سبيل الله تعالى.
وبعد معركة طريف أصبحت مملكة غرناطة في مدّ وجز، واعتورتها حالات الحرب والهدنة، والمسالمة والتحالف جنباً مع قشتالة ضد بني مرين، ومع بني مرين ضد قشتالة، أو أراجون حيناً آخر ثم مالبثت هذه المملكة أن أصابها الهرم، ولحقتها الشيخوخة وأضعفها الانقسام والتناحر الداخلي مع الانغماس في اللذات وفي نفس الوقت ضعفت دولة بني مرين المغربية التي كانت عوناً في كثير من الأحيان لمسلمي الأندلس ضد أعدائهم النصارى وكان زمن سقوط دولة بني مرين 869هـ(3).
واندلعت الحرب الأهلية في داخل غرناطة بسبب النساء حيث أن ملك
(1) نفح الطيب (5/514).
(2) نفس المصدر (5/514) نقلاً عن التاريخ الاندلسي ص547.