سورة النمل من القرآن النازل بمكة. وقد حوت عجائب عن عالم الحيوان ربما كشف عنها المستقبل القريب، وإلى ذلك تشير الآية الآخيرة فى السورة: " وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون " . أما صدر السورة ففيه خلاصات سريعة عن مصائر المؤمنين والكافرين، فالهدى والبشرى للأولين، والضياع والخسار للآخرين. والواقع أن هذا التمهيد السريع جاءت السورة فى الجزء الأخير منها بتفصيله، ولكن بعد إيراد أربع قصص: عن موسى وفرعون، وعن سليمان وسبأ، وعن ثمود، وعن قوم لوط... كما جاء فى السورة إيماء وجيز عن الدابة التى تخرج قبيل الساعة. فلننظر أولا إلى هذه القصص نظرة عجلى: فى قصة موسى يقول الله له عندما فر بعد مارأى عصاه تتحول إلى ثعبان: " يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون * إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم " . فى هذا الكلمة طمأنة لموسى أن الله غفر له قتل خصمه فى مصر، فقد قال بعدما صرعه: " رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم". وهو هنا يؤكد هذه المغفرة، ويبشره بالرسالة!!. ثم يذكر الفراعنة بأنهم كفروا بالله عن عمد وإصرار وهم عارفون بأن موسى على حق، فليس لهم أى عذر فى حربه! " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين " . وقبل أن نشير إلى قصة سليمان نذكر بقوله تعالى: " وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم... " .
ص _292 هذه الأمم تعيش وتتفاهم بلغات خاصة بها، ومادام هذا التفاهم مستيقنا، فإن فى مكنة الناس أن يعرفوا أسراره. وقد كان سليمان من المحيطين بلغات الطيور والحشرات.، وعلمه الله منها ما يعجز عنه الآخرون: " علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين " . وقد أسمعه الله قول النملة لجماعتها: " يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون * فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين " . وذكرت السورة أن الهدهد أتى سليمان بخبر بلقيس ملكة سبأ التى كانت تعبد الشمس، وقد عجب الهدهد لما رأى أنهم وثنيون يعبدون من دون الله بعض مخلوقاته " فهم لا يهتدون * ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون... " . وقد خط سليمان كتابا إلى هذه الملكة جاء فيه: " بسم الله الرحمن الرحيم * ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين" . والإسلام هو دين الأنبياء كلهم، ما شذ منهم أحد، لأن أساسه الإيمان بالله، والخضوع له، والاستعداد للقائه.. وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد سواء فى ذلك. وقد تريثت بلقيس فى الرد، وأحبت أن تعرف هل سليمان واحد من الملوك الذين يطلبون المال والسيادة؟ أم هو من الهداة إلى الله المترفعين عن الدنيا؟ فلما جاء سليمان وفد يحمل إليه التحف والهدايا أدرك ما هنالك. وقال للوفد : " أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون " . وأحب أن يرى الملكة معجزة تشهد له بالصدق! فقال لجلسائه: " أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين "؟ . وجاء العرش بقدرة الله إلى بيت المقدس من اليمن فى لمح البصر!. ورأى سليمان عظمة ما وقع فقال: " هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم " . وأظن - تفسيرا لما وقع - أن المادة تحولت إلى طاقة تجرى بسرعة الضوء، ثم عادت سيرتها الأولى عرشا تجلس عليه الملكة..
ص _293 وقد نظرت بلقيس إليه فى دهشة، وقيل لها: " أهكذا عرشك قالت كأنه هو " وهى إجابة تدل على تمام عقلها، ثم رأت من حال سليمان ما عرفها أنه رسول من الله، فآمنت به وقالت ".. وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين... " . وتلت قصة ثمود قصة سبأ، وثمود نموذج آخر لعاد فى الكبر والغطرسة. فلما جاءهم صالح يدعوهم إلى الله تشاءموا منه، وتآمروا على قتله " قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله... " . ويبدو أنهم بدل أن يقتلوه قتلوا الناقة التى خلقها الله معجزة له، فذاقوا العقاب الأليم " ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين * فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا... " . ثم جاءت قصة لوط مع المدينة الفاسقة، كان أهلها قد مسخت فطرتهم، واستمرأوا الدنس، وجعلوه علنا فى مجالسهم ونواديهم. ولوط إسرائيلى مهاجر إلى هذه المدينة، فلما فوجئ بخبثها نهاهم عنه، فرأوا طرده من مدينتهم، ويظهر أن فجورهم قد استقر فى أنفسهم ومجتمعهم. " ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون * أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون * فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون " . وقد دمر الله القرية وجعل عاليها سافلها.. ما فعله قوم لوط معروف عند أهل الكتاب ومصيرهم الكالح مذكور عندهم، ومع ذلك فقد استباحوه، ومنعوا معاقبة فاعليه، فهل هذا إلا الكفر؟. وعندما ننظر إلى أول السورة نجده مهادا لهذه الآحداث، ونذيرا بعقباها : " إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون * أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون " . بعد أن قص الله على نبيه مصائر بعض الأمم التى كذبت رسلها أقبل عليه بهذا الخطاب : " قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى... " .
ص _294 الحمد لله على هلاك المعتدين وطفر الأرض منهم، كما قال فى سورة الأنعام: " فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين " . إن فراغ الأرض من الظلمة، ورسو قواعد الحق، نعمة كبرى تستحق الشكر، كما يستحق التحية الأنبياء الكرام الذى صبروا وصابروا حتى انتهوا إلى هذه النتيجة المرضية. ثم جاء هذا الاستفهام لتقرير حقيقة عظيمة: " آلله خير أما يشركون "؟. وهو كقوله سبحانه على لسان يوسف: " يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار " . وتقرير الوحدانية أصل مشترك فى جميع الرسالات السماوية، فإن التعدد نبت فى الأرض فى بعض البيئات الضالة، ولما كان قد شاع بين العرب، فقد وجه القرآن إليهم خمسة أسئلة ترسى قواعد الوحدانية، وتشرح الحقيقة لكل ذى لب: 1 - " أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون " أى يسؤون بالله غيره من أصنام، أو يميلون عن الطريق القويم، ولا يستطيع أحد القول بأن خالق السماء ومنزل الماء ومنبت الحدائق الغناء حجر أو بشر..!!. 2 - " أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون "!! . إن استقرار الأرض بمن عليها فلا قلق ولا اهتزاز: أمر مدهش، لأن للأرض حركتين: حول نفسها، وحول الشمس، ومع هذا الحراك المزدوج، والانطلاق الهائل فى الفضاء لايهتز كوب ماء فى يدك!. ثم إن الأرض كرة وأربعة أخماسها ماء ملح. وفى القارات أنهار وبحيرات عذبة، ولا يختلط عذب وملح، كل مستقر فى مجراه! لاختلاف الكثافة النوعية كما يقولون، أفلا يسوقنا هذا إلى الله؟. 3 - " أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون " . وهذه الآية انتقلت من المكان إلى السكان! وما يعروهم فى حياتهم من آلام تجعلهم يجأرون بالدعاء، ويتلهفون على الفرج، من يسودتى الخير إلا الله؟.
ص _295 4 - " أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون "! الهادى للناس فى أسفارهم برا أو بحرا أو جوا هو الله، ومرسل الرياح فى الجهات الأربع هو الله. من من الآلهة المزعومة يفعل شيئا من ذلك؟. 5 - " أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " . لا برهان هنالك. ليس للكفر دليل يسمع. إن الإلحاد مرض، وليس فكرا، إنه غرور يرتكز على أوهام ولامكان له فى منطق العقل!!. والفلسفة المادية السائدة الآن، إنما تدور على فكرة " إن هى إلا أرحام تدفع وأرض تبلع " التى تولدت عن الوثنيات القديمة. وغريب أن تتحول إلى نظرية علمية تقول: " المادة لا تفنى ولا تستحدث ". وفى ظل هذا الخيال تنطلق الأجيال نحو صفر!! ويسود السلوك الحيوانى كل شىء " وقال الذين كفروا أئذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون * لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين * قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين " . وقد كلف النبى العربى المحمد أن يعترض هذا الضلال، وأن يصور للناس الآخرة رأى العين! وأن يكون حضارة ربانية تؤمن بالله، وترتبط بالوحى، وتستعد للجزاء. والإسلام يصنع على ظهر الأرض أمة تعتبر السعى للآخرة إطار سلوكها كله، وتقف أمام ربها صفوفا صفوفا خمس مرات كل يوم بعد نداءات مدوية بتكبير الله وتوحيده!!. وفى سورة النمل آية تذكر أنه بين يدى الفصل الأخير فى رواية هذه الحياة سوف تخرج من عالم الحيوان دابة يلهمها الله النطق، تقول للبشر: كيف نسيتم ربكم، وجحدتم عقولكم وأنكرتم خالقكم؟؟ ما هذا الكفر؟. وإنى أتصور هذه الدابة وهى تعترض ذوى الألقاب وأصحاب المناصب، لتقول لهم: عالم الحيوان أسعد منكم حظا، فهو لم يحظ بعلمكم، ومن ثم لا يلام على غباء، أما أنتم فقد منحكم الله الذكاء فحاربتموه به..! قبحتم من بشر!!. " وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون " وقد وردت روايات خرافية عن هذه الدابة لا تصح، ويكفينا فى شأنها الخبر اليقين..
ص _296 وانتهت هذه السورة بحديث عن الآخرة والحساب، يقوم على هذا القانون العادل: " من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون * ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون " . ولواء الدعوة إلى الله آخر الدهر معقود لصاحب الرسالة العظمى الذى صنع بالقرآن أمة وظيفتها أن تبلغ الوحى، وتصنع به أمما على غرارها. " إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين * وأن أتلو القرآن... " . وسيكشف المستقبل الكثير عن مستقبل الإسلام ومستقبل الكفر فى هذه الدار المحدودة، وفيما بعدها " وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون " .