إيمانهم بفرعون!! ولكن ذلك ماحدث، وقد جن جنون فرعون وغلب عليه صلف ألوهيته المزعومة " قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين " . والحق أن موقف هؤلاء السحرة لاينفك يثير العجب، لقد انتقلوا فى لحظة قصيرة من الارتزاق بالضلال إلى قمة التضحية بكل شىء فى ذات الله، فسبقوا سبقا بعيدا!. أما فرعون فقد بقى على غروره وعناده، وتساءل بغباء كيف يؤمن الناس دون أن يأخذوا منه إذنا؟ كأن ضمائرهم ملك له!!. وتراخت الأيام، وقرر موسى أن يخرج من مصر مع قومه فرارا من العبودية والعذاب، فعبأ فرعون جيشه وخرج وراءهم كى يستعيدهم، واقترب الفريقان حتى أصبحا على مد البصر. وقال اليهود " إنا لمدركون " . وروت التوراة جزعهم وفرقهم وصياحهم لولا أن موسى قال : " قال كلا إن معي ربي سيهدين ". واعترض البحر الأحمر الطريق، وهنا تدخلت العناية العليا، فإن موسى ضرب البحر بعصاه، فانحسرت المياه يمينا ويسارا، وانكشفت اللجج عن طريق يابس عبر منه الإسرائيليون إلى الشاطئ الآخر. وحاول فرعون أن يتبعهم فأطبق عليه الموج من كل جانب، وانتهت قصة ألوهية كاذبة، عربدت حينا ثم لفظت أنفاسها بين الماء والطين. إن الذى آتى إبراهيم رشده زوده بإيمان سهل سائغ لا تقفر فيه ولا التواء. ونحن نزداد شعورا بذلك كلما قرأنا كتب الفلاسفة الإلهيين، وطالعنا ما بها من تعقيد. أما إبراهيم فهو يقول عن ربه : " الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين * والذي يميتني ثم يحيين * والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين". ونبينا محمد - عليه الصلاة والسلام - أولى الناس بإبراهيم، وأقربهم إليه. والدعوة إلى التوحيد شعار الأنبياء كلهم، فهم جميعا خصوم الشرك، وقد طاف إبراهيم أقطارا شتى وهو يحارب الأوثان. ومع أن البشر الذين أشركوا خصوا الإله الأعظم بمكانة خاصة، إذ جعلوا الآلهة الأخرى وسطاء له وشفعاء عنده، فإنهم سرعان ما سووهم به، بل ذكروهم دونه!!.ص _288
ولذلك جاء فى قصة إبراهيم هنا عن حديث المشركين فى النار: " قالوا وهم فيها يختصمون * تالله إن كنا لفي ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين * وما أضلنا إلا المجرمون * فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم " . والحضارة المعاصرة يغلبها النسيان، وإذا كان الشرك يشوب عقائدها فهى فى ولهها بالحياة الدنيا لا تذكر الله، ولا ما جعلته جزءا منه!!. والقرآن الكريم ذكر قصة إبراهيم بعد قصة موسى، وقبل قصة نوح، لأن السرد التاريخى لا يعنيه. إنما تعنيه العبرة التى تنفع الناس!!. وفى قصة نوح نلحظ أن ازدراء الفقراء والضعفاء بدأ من عصر مبكر، فالغنى يكره الفقير، والقوى يحتقر الضعيف، وكأن بذور نظام الطبقات وجدت من فجر الإنسانية. والفقراء بداهة أسرع الناس إلى اتباع الأنبياء، لأنهم يلتمسون لديهم الإنصاف والكرامة، وذاك ما لا يعجب الكبراء ولذلك قالوا لنوح: "... أنؤمن لك واتبعك الأرذلون * قال وما علمي بما كانوا يعملون * إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون * وما أنا بطارد المؤمنين * إن أنا إلا نذير مبين ". ومعروف أن مشركى مكة بعد أعصار طويلة طلبوا مثل ذلك من محمد - عليه الصلاة والسلام - فأبى وقال الله له: " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه... " . ما هذا الشبه... " أتواصوا به بل هم قوم طاغون * فتول عنهم فما أنت بملوم ". على أن قصة الإيمان والكفر ليست قصة أغنياء وفقراء، فقد آمن بمحمد المكثرون والمقلون، وجمعتهم الصلوات فى صفوفها المسواة، ورضى كل منهم بالاختبار الإلهى الذى تعرض له!!. ولعل أقرب القصص إلى طبيعة العصر الحاضر قصة عاد وثمود، وبينهما على بعد المكان قرب شديد! كانت عاد من الناحية الجثمانية عمالقة، قامات مديدة، وعضلات مفتولة، وعافية عاتية. وكان القوم من الناحية العقلية أصحاب ذكاء ودهاء يضرب بهما المثل. قال النابغة الذبيانى يمدح الغساسنة: أحلام عاد، وأجساد مطهرة من المعقة والآفات والأثتم!. ولكن عادا أبطرها هذا التفوق المادى والأدبى وقالوا: من أشد منا قوة؟.
ص _289
وأخذوا يستمتعون بالحياة على نحو مفرط، يتطاولون فى البنيان، ويذهبون بأنفسهم، وإذا وقع بأيدهم ضعيف بطشوا به، لايخافون قصاصا! من يقدر عليهم؟. قال لهم نبيهم هود: " أتبنون بكل ريع آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون * وإذا بطشتم بطشتم جبارين * فاتقوا الله وأطيعون " والريع: الربوة أو التل أو المكان المرتفع. والآيات التى بنوها قيل: علامات تدل على الطرق فى هذه المتاهات الرملية! وقيل: بل القصور المشيدة، والمصانع، وقيل: خزانات للمياه، وقيل: حصون سامقة.. وعند التأمل نجد أن بناء البيوت العالية والسدود المائية ليست مما يؤاخذ امرؤ عليه! ولذلك قال العلماء: إن الذى أخذ عليهم الترف الشديد، والإغراق فى حب الدنيا، والذهول عن الله، واجتياح حقوق الآخرين!. ونحن نشهد فى المعاصرين من أبناء أوروبا وأمريكا أنهم يشيدون ناطحات السحاب، ويتطاولون فى البنيان، ويذكرون شهواتهم، وينسون وصايا ربهم. ف!ذا حاربوا فجروا الذرة بالهلاك العام! وإذا خاصموا لم يبالوا بما يلقى عدوهم من هوان وخسف!!. وغضب الله على عاد وثمود وأشباههم فى الآخرين إنما يجىء من هذه الناحية، مع جهل بالله، وذهول عن لقائه وجرأة عليه.. ثم جاء قوم لوط، والغريب أن الحضارة الحديثة مهددة بالاستغراق فى الملذات، والإقبال على الشذوذ، ولما بدت نذر الموت ما صاح أحد بضرورة العفاف والتقوى، بل تضافرت الجهود العالمية على استكشاف وسيلة تجمع بين اللذة الحرام والنجاة من العواقب المهلكة!!. وهذا لون من الإسراف يقتل الشعوب " أتأتون الذكران من العالمين * وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون " . وقد دمر الله هذه القرى، وللكافرين أمثالها...!. ثم ختمت هذه القصص القديمة بشعيب وأصحاب الأيكة الذين قيل لهم: " أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين * وزنوا بالقسطاس المستقيم * ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين " .
ص _290
ولكن قوم شعيب أكلوا الحقوق، واستحفوا المظالم فبادوا.. والأمة الإسلامية مكلفة بكل خيركلفت به الأمم الأولى. ورسالتها العامة لسائر الخلق تجعلها حاملة لمواريث الهداة السابقين، وإذا كانت بقايا أهل الكتاب قد نسيت - أو تناست - مالديها، فلنذكر نحن أن محمدا صاحب رسالة عامة خالدة، جمعت ماتناثر خلال القرون الأولى من عظات وعبر، واستبقته وحيا يتلى إلى آخر الدهر.
ص _291
مأخوذ من كتاب نحْوَ تفسير مَوْضوعيّ.
الشيخ محمد الغزالي.